في كل عام يستبشر الجميع بهطول الأمطار، فهي تحيي الأرض بعد عطشها، وتروي القلوب فرحة بقدومها خصوصاً إذا هطلت بعد جفاف طويل، وقد دأب الناس منذ القدم على تحري وقت هطول الأمطار شوقاً إلى رائحة الأرض بعد استقبالها لزخات المطر والجو الذي يبدو بديعاً وخلاباً أثناء نزول المطر، خاصةً إذا كان مصحوباً بزخات من البرد، وكان خالياً من الرعد، أو كان هطوله على شكل ديمة خفيفة ومستمرة وهو ما يسمى "هتان"، وفي الماضي القريب كانت الحاجة الملحة لمياه السيول والأمطار في سقيا المواشي وارتفاع ماء الآبار الجوفية التي يشرب منها الناس وكذلك سقيا المزروعات، لذا كان الغالبية من الناس يستعدون لمواجهة غزارة الأمطار قبل دخول الوسم وهو وقت هطول الأمطار، فكان أصحاب المزارع ينظفون مجاري السيول من الشوائب لضمان دخول المطر إلى المزرعة وعدم تعرض جدرانها للسقوط عند انسداد المجرى وتجمع المياه، خصوصاً إذا هطل المطر في الليل وصعب تفقدها، وقد أبدع الأجداد وأجادوا في تنظيم عملية دخول الماء إلى مزارعهم بطريقة هندسية بحيث يقسم الماء بينها بالسوية، على أن تكون الشعبة الواحدة من الماء تسقي العديد من المزارع في طريقها بحيث يكون لكل مزرعة منسوب يسمح بتخزين كمية كافية من مياه السيول، وعند امتلائها يفيض الماء وينساب إلى المزرعة التي بعدها وهكذا إلى آخر مزرعة، ومن ثم يخرج الزائد إلى الرياض القريبة التي قام بعض الناس بوضع "البعل" فيها، وذلك برمي البذور فيها بحيث تغمرها مياه الأمطار لعدة أسابيع وتكفي لنمو الزرع ونضجه إلى وقت حصاده دون ريه عن طريق الآبار، ونادراً ما يحدث شجار بين المزارعين في قسمة مياه الأمطار، وذلك لحسن تصريفهم للمياه، كما يقومون بتنظيف مجاري السيول وأسطح المنازل وتنظيف "مرازيم" الماء، وتتم تسوية أسطح البيت بالطين وتسمى "مليط" بحيث يجعلون ميولاً لضمان سرعة انسياب الماء مع "المرازيم" وعدم بقاء ماء المطر حائراً بدون مخرج مما يجعل السطح لا يتحمل ثقل مياه السيول فيسقط، أو يبدأ الماء ينزل من السقف ويخر إلى داخل البيت فيفسد ما فيها من أثاث على قلته.
أخبار محزنة
وفي عصرنا الحاضر وبعد أن تبدلت الأحوال وأنشأت السدود الكثيرة من أجل الاستفادة من مياه الأمطار وكذلك حماية المنازل والمزروعات، وأقيمت مجار للسيول حول المدن والقرى لحماية ولدرء أخطار السيول، واستغنى الناس عن الشرب من مياه الآبار التي كانوا يجدون المشقة في إخراجها بعد أن انتشرت مشاريع المياه العذبة التي تغذي جميع السكان في كل شبر من مملكتنا الغالية بفضل الدعم اللامحدود من قيادتنا الرشيدة - حفظها الله - منذ القدم، فقد بات استقبال الأمطار بفرح من أجل الاستمتاع بمشاهدة هطولها وجريان سيولها في الأودية والشعاب، فأصبح الناس يخرجون عند هطول المطر للاستمتاع بمناظر الأودية والشعاب وهي تجري ومشاهدة الغدران الصافية والأرض وهي تزهو بنباتات الربيع التي تخلفها تلك الأمطار، وتبدلت الأحوال، فبعد أن كان الناس يستكنون في منازلهم عند هطول الأمطار خشية تعرضهم للأذى منها بات الكثير منهم يخرجون بسياراتهم يستقبلونها بل ويتتبعون هطولها رغم عدم استقرار الأحوال الجوية، ويعرضون أنفسهم بقطع الأودية والشعاب وهي تجري بسرعة معرضين أنفسهم للخطر، وكم تحمل الأنباء في كل عام أخباراً محزنة عن تعرض الكثير من هؤلاء المغامرين والمستهترين بأرواحهم إلى الموت غرقاً، ورغم كثرة التحذيرات من الجهات المختصة إلاّ أن هذه الظاهرة لا زالت تتكرر في كل عام، حيث شهدت عدد من مناطق المملكة هذا العام غرق 14 شخصاً في مناطق متفرقة خلال أسبوع واحد مع هطول الأمطار الأخيرة.
سنة الغرقة
وشهدت البلاد منذ القدم العديد من حالات الغرق لعدد من المدن والقرى جراء هطول الأمطار بغزارة، حتى شهدت بعضها حوادث فياضانات، وهدم بيوت وغرق، وقد كانت تلك القرى والمدن تؤرّخ بتاريخ تلك الأحداث، وأشهرها سنة الغرقة التي حدثت في بريدة عام 1376هـ، حيث هطلت أمطار كبيرة تلك السنة واجتاحت السيول منطقة القصيم، وهدّمت البيوت، فكان الناس يستغيثون الله -عز وجل- أن يُمسك السماء بعد أن تعطلت الدراسة، وسقطت البيوت وخرج الناس إلى البراري يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، حيث كانوا يخيمون بالقرب من مستشفى بريدة المركزي حالياً؛ لأنه مكان مرتفع، والغني في تلك الفترة من يملك بساطاً يرفعه بأعواد يتوقى المطر، واستمرت الأمطار مدة أربعين يوماً وفيها سقط الجامع الكبير في بريدة من شدة المطر.
سيول جارفة
ومن تلك الحوادث القريبة أيضاً الغرق الذي شهدته محافظة مرات عام 1395هـ وتأثرت منه أيضاً ثرمداء، حيث خرج الناس إلى المساجد وتركوا منازلهم، والبعض الآخر خرج إلى مكان مرتفع عن الأرض ونُصبت الخيام وبقوا عدة أيام حتى زال الخطر، وقد وقع عدد من المنازل الطينية في البلدتين جراء تلك السيول الجارفة، وعلى الرغم من قلة الإمكانات في ذلك الوقت إلاّ أن الملاحظ أن الناس خلال هطول الأمطار الغزيرة والسيول الجارفة كانوا يبتعدون ما أمكن عن أماكن الخطر ويلزمون بيوتهم ولا يغادرونها إلاّ للضرورة القصوى، كتداعي البيت من جراء الأمطار وتصدعه وقرب وقوعه فيضطرون للخروج نجاة بأنفسهم، أما في عصرنا الحاضر ومع تبدل الأحوال فقد بات الناس يخرجون من بيوتهم ويركبون سياراتهم ويتتبعون هطول الأمطار من أجل مشاهدة غزارتها وشدة جريان الأودية والشعاب ومشاهدة كذلك شلالات الماء المتساقطة وتوثيق ذلك بالصوت والصورة بعد انتشار برامج التواصل الاجتماعي، غير مبالين بالتحذيرات التي تطلقها الجهات المختصة كهيئة الأرصاد الجوية والدفاع المدني معرضين أنفسهم للخطر، مما أوقع العديد من حلالات الغرق لكثير منهم.
مفرقة السحاب
وكان الناس فيما مضى من عقود قليلة وقبل تقدم أجهزة الرصد وتوفرها يتوقعون هطول الأمطار مستعينين بالظواهر الطبيعية مثل "المخايل" للسحاب عند مروره، بل إن بعضهم يمضي الساعات في مخايل السحاب -أي النظر في الأفق البعيد- ليعرف هل ستمر هذه السحب من حولهم مما يبشر بهطول المطر، أو أن هذه السحب ستذهب إلى جهة البلدان المجاورة، وقد اكتسب البعض مع مرور الوقت الخبرة فباتوا يخبرون بأن هذا السحاب سيمضي إلى البلد الفلاني وسيمطر عليه، والبعض منهم كذلك يعرف أن هذا السحاب قادم إلى البلدة فيبشر الجميع بوصوله إليهم قريباً وبهطول الأمطار، كما حدد بعضهم من لون السحاب مدى غزارته وإن كان معه شبوب أي –برد- ويحذر الناس من ذلك قبل وقوعه بوقت كاف ليأخذوا حذرهم، وغالباً ما ينظر من يخايل إلى جهة القبلة وهي جهة الغرب لمن هم في وسط بلادنا، حيث أن قدومه من الغرب ينبئ بقرب هطوله، وعادة ما ينشأ السحاب من جهة الجنوب، وإذا هبت الرياح من جهة الشمال فإن هذه ليست بشرى طيبة لمن يخايل، فمعنى ذلك أن السحاب سيذهب بعيداً عنهم وقد أطلقوا قديماً على رياح الشمال اسم مفرقة السحاب، أما هبوب الرياح من الشرق فإنها لا تؤثر، لكنها تبطئ من سير السحاب وتؤخر هطول المطر.
حيطة وحذر
وبعد نشأة هيئة الأرصاد الجوية التي مرت بمراحل في تاريخ تأسيسها بدءاً من عام 1348هـ الذي أنشأ فيه الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- مديرية الأمور العسكرية وهي تمثل النواة الأولى لبناء جيش ربطت مباشرة بالملك عبدالعزيز، وعين عليها مديراً للمديرية وأسندت شؤون الطيران -مشتملة على شؤون الأرصاد- في البلاد إلى هذه المديرية، وفي عام 1359هـ استُبدِلت مديرية الأمور العسكرية لتصبح رئاسة الأركان الحربية وتتكون من أربعة مكاتب ومنها مكتب الأرصاد بمسمى إدارة الأنواء الجوية، وفي عام 1363هـ تم استحداث وزارة للدفاع وأصبحت إدارة الأنواء الجوية تتبع سلاح الطيران الملكي السعودي في حينها، وفي عام 1370هـ استقلت إدارة الأنواء الجوية لتصبح المديرية العامة للأرصاد الجوية وتتبع مصلحة الطيران المدني، وفي عام 1386هـ فصلت شؤون الأرصاد في مؤسسة مستقلة بمسمى مصلحة الأرصاد الجوية وتتبع لوزارة الدفاع والطيران، ثم أضيفت مهام حماية البيئة إلى مصلحة الأرصاد الجوية في عام 1401هـ، وتعديل مسماها إلى مصلحة الأرصاد وحماية البيئة، وفي عام 1422هـ تم إعادة هيكلتها من جديد وتحويل مسماها إلى الرئاسة العامة للأرصاد وحماية البيئة، وأنيط بها دور الجهة المختصة في تطبيق النظام العام للبيئة، وفي عام 1437هـ تم تعديل المسمى إلى الهيئة العامة للأرصاد وحماية البيئة، ولا تزال الهيئة إلى يومنا هذا تهتم بشؤون الأرصاد الجوية وتقوم بإصدار التنبيهات في وقت وحين من أجل أخذ الحيطة والحذر من التقلبات الجوية، خاصةً هطول الأمطار الغزيرة وهبوب الرياح الشديدة المثيرة للأتربة والغبار، وفي وقتنا الحاضر وبفضل تقدم التقنية وسرعة الوصول إلى المستفيدين عبر مختلف وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي باتت الهيئة تنشر تحذيراتها للجميع من أجل توخي الحيطة والحذر.
تكثيف الجهود
وكثرت في السنوات الأخيرة حوادث الغرق المميتة في عدد من مناطق المملكة جراء هطول الأمطار الغزيرة والسيول الجارفة، وذلك على الرغم من التحذيرات التي تطلقها هيئة الأرصاد الجوية والدفاع المدني، حيث كشف تحقيق استقصائي عن حوادث الغرق في المملكة، عُرض على برنامج إم بي سي في أسبوع على قناة MBC من إعداد الزميل سلطان السلمي، عن أن عدد حالات الغرف في المملكة بلغ 769 حادثة غرق، سُجلت خلال سبع سنوات مضت، وأشار التحقيق إلى أنه مع كل موسم للأمطار، وعندما تسيل الأودية في شتى المناطق، تظهر قصص الغرق بين الحين والآخر نتيجة ممارسات، تكون نتائجها كارثية بسبب عدم اتباع تعليمات الدفاع المدني والتحذيرات التي يطلقها قبل بدء الحالة الجوية حتى انتهائها ولا تزال حالات الغرق تتزايد في كل موسم من مواسم الأمطار، حيث شهدت عدد من مناطق المملكة هذا العام غرق 14 شخصاً في مناطق متفرقة خلال أسبوع واحد مع هطول الأمطار الأخيرة، مما يستلزم العمل على تكثيف الجهود، خاصةً التوعوية للمواطنين، بأخذ الحيطة والحذر عند هطول الأمطار الغزيرة والسيول الجارفة، وكذلك فرض غرامات للمستهترين بالأرواح والممتلكات والمخالفين لتحذيرات الدفاع المدني وهيئة الأرصاد الجوية عند خروجهم للأودية ومجار السيول معرضين أنفسهم للغرق.





التعليقات