لا شك أن هذا العصر يجسد نضج الإنسان وتطوره، وهذا يدفعنا الى الخروج من نفق العزلة والانفتاح على العصر، والتفاعل الفكري والعلمي والمعرفي معه وذلك من خلال إعادة بناء منهجية التفكير وتوظيف المناهج المعاصرة توظيفًا علمياً حقيقياً وتقاسم الحياة مع العالم..

لا يمكن لأي إنسان أن يتدين بدين إلا إذا اعتقد أن دينه صالح لكل زمان ومكان، ولكن ليست المسألة في أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، فهذا ما يعتقده كل مسلم ولن يكون مسلمًا إذا ما شك في ذلك.. ولكن السؤال هل الفرد المسلم صالح لزمانه أي قادر على أن يعيش عصره بالصورة الصحيحة؟

فإذا ما نظرنا مثلًا إلى المسلم الياباني أو الأميركي أو الأوروبي نراه قادراً على أن يعيش عصره وفي نفس الوقت يؤدي شعائره الدينية.. وإن كان هنالك من يقول إن العصر الذي نعيشه ليس من صنعنا وإنما هو من صنع الإنسان الأوروبي والأميركي والياباني، ومن الطبيعي أن تداخلهم مع العصر.. ولكن هذا العصر أصبح عصراً للبشرية كلها ولكننا بحاجة إلى جرأة بالغة في أن نفتح الباب واسعاً على العصر ونستوعب فلسفته وثقافته وفكره وحضارته.

لا شك أن هذا العصر يجسد نضج الإنسان وتطوره، وهذا يدفعنا الى الخروج من نفق العزلة والانفتاح على العصر، والتفاعل الفكري والعلمي والمعرفي معه وذلك من خلال إعادة بناء منهجية التفكير وتوظيف المناهج المعاصرة توظيفًا علمياً حقيقياً وتقاسم الحياة مع العالم.

ومن خلال هذا التوصيف المنهجي للمسلم المعاصر تبدو لنا شخصية الشيخ صالح الحصين -كما تأملناها في كتابه الوسطية- منظومة متكاملة من الوعي بطبيعة العصر وتحولاته وتفاعلاته.. فبالرغم من كونه شيخًا عرفه الناس إلا أنه كان يضمر ثقافته المتنوعة الشرعية والعصرية معاً وكان يعكس خبرات حياته المتنوعة والتي تعبر عن تمازج فريد بين إمساكهم بخصائص مجتمعه الذي تماها مع أفضل ما فيه وخبراته التي حازها من مجتمعات أخرى من الشرق والغرب.. فأصبح صورة فريدة لشخصية إنسانية جمعت بين ثقافات متعددة ولغات متعددة وتجارب متعددة صهرها في قالب من التصالح مع الذات.. كانت مفتقدة لدى الكثير من الشخصيات التي طبعت مظهرها العام بنمط واحد، سواء كانت هذه الشخصيات من العلماء أو من الشخصيات العامة.

فقد كان يحاول تكييف الإسلام تكييفًا معرفيًا متصلًا بالأصالة ومعبرًا عنها داخل الحياة الحديثة.. فلقد ظل وفيًا لذلك الارتباط العميق الذي جعله يعيش معنى الإسلام في قلب الأزمنة الحديثة دون أن تحدث تلك الأزمنة في نفسه زلزالاً يهدم ثقته أو يقوضها.

فمنذ البداية كان على وعي كامل بالإسلام ومنفتحًا على عالمه ومتصالحًا مع نفسه، فقد تعلم علما شرعيًا، ثم أخذ بأسباب العلم الحديث في الجامعة المصرية عبر سنوات شهدت استقطابًا فكريًا في خمسينيات وستينيات القرن الـ20.

ففي مصر درس القانون وحصل على درجة الماجستير ثم ذهب إلى فرنسا للدراسة فرجع منها بإتقان اللغة الفرنسية والتي أجادها إلى جانب اللغة الإنجليزية ليكون بإتقانه لهاتين اللغتين على استعداد تام لفهم علوم عصره المتنوعة. والجمع بين معرفته بعلوم العصر وحقيقة الإسلام التي وعاها فطرة ومعرفةً وقراءةً وسلوكًا.. فقد منح نفسه منذ بداياته الأولى قدرة عالية على الانفتاح والقراءات المتعددة والمكثفة وهذا ما منحه القدرة على تصفية الأفكار والمفاهيم وإعادة تأويلها وفق رؤيته الواعية.

فقد كان حينها يطالع كتبًا في الفنون المتعددة الشرعية واللغوية والاجتماعية والإنسانية بل وحتى علم النفس والاجتماع وكان يعكف على تعلم اللغة الإنجليزية مكرسًا لها وقتًا من حياته من خلال الاستقراء الذاتي حتى أدرك منها معرفة قادرة على قراءة الكتب في تلك اللغة.

وهكذا نجد أنفسنا أمام رؤية شاملة ومنهج واضح وإدراك عميق على مستوى الذات والموضوع.. فمثل هذه الرؤية تمنح صاحبها ضبطًا منهجيًا عميقًا في الاستجابة للأحداث والوقائع المتجددة والقدرة على مواجهتها في مختلف الأحوال والمستجدات هذه المنهجية المتراكمة للتجارب تجعل في كل تجربة درسًا.

ولذلك يمكننا القول إن هذه المنهجية جعلت من حياة الشيخ صالح الحصين منظومة مضيئة تقتضي منه دائمًا أن يكون كما هو في كل أحواله مع من يعرف ومن لا يعرف، ذلك أن استواء الحال في مختلف مقامات العلاقة مع البشر هو أكبر دليل على ثبات النفس واستقرارها وتصالحها مع ذاتها، لقد ظل ثابتًا على نوره المضيء منذ البدايات ومتحركًا به في الحياة والناس. فلم يعرف تغييرًا فاجأ حياته سواء في الداخل أو الخارج.

فمنذ البداية عكف على بناء رؤية معرفية راكم عليها تجارب وقراءات ومعارف أضافت الكثير إلى موقفه الملتزم بالإسلام وفق مفهومه المنهجي الشامل، ويمكن القول إنه اختار الحركة بالإسلام كخيار ذاتي متصل بمنطلقاته الأولى.

فقد كان الصدق مع الله في كل أحواله ومن ثم الثقة بالمعرفة البناء الذي راكم عليه وعيه فعبر هذين الحدين حد المعرفة المنفتحة على علوم الدين والعصر وحد الصدق مع الله، تحرك بوعيه المتقدم لمعنى الإسلام في زمن شهد استقطابًا حادًا وتشويشًا كبيرًا للمفاهيم التي كرستها الحداثة، لكن طموحه الذي جعله يقرر أن يختار الحركة بالإسلام عبر الوعي حفزه إلى طلب العلم ليضيف إلى معرفته علومًا أخرى، فذهب إلى مصر لتلقي العلوم الحديثة ومن ثم إلى فرنسا لتلقي لغتها.