عندما تسأل الناس: "من يكذب؟"، فإن الإجابة ستكون غالبًا: "الجميع". قد لا يكون ذلك صحيحاً أو مبالغاً فيه، لكنه قريب جداً من الواقع. وعندما تسمع أحدهم يزكي نفسه ويقول إنه لا يكذب أبدًا فقد يكون ذلك خارجاً عن قبول الفكرة فكل ابن آدم خطّاء.
الكذب سلوك لفظي ملتصق بسمات الشخص ونمطه السلوكي، ومرتبط بنزاعات وعيه نحو قناعته، وميله اتجاه حماية نفسه.. يعتقد الكثير من الناس أن الكذب تكتيك اجتماعي فعّال للغاية حيث يتوقع البعض أن يكذب عليهم الآخرون دائماً ويظنون عادة أنهم يسمعون منهم غير الحقيقة، مما يمنح الفرصة لمن ينزع للكذب أن يستمرئ كذبه ويبرر فعله.
وتقوم فلسفة الكذب على مكونات تضخيم الأنا حيث تجعل الفرد في حالة تنافسية ذاتية خصوصاً عند اتصاله بطرف أو أطراف ذات تأثير على مصالحه، أو مشاعره، أو أفكاره.
ومؤكد أن دوافع الكذب عديدة تبدأ بانتصار الذات أو الرغبة في الحصول على منفعة ما، أو الخوف من فقدان مكتسب، أو تجاوز حالة محرجة يعيشها أحدهم، أو الهروب من مشكلة.
ويجد البعض أن إرضاء الآخر متطلب يعزز متانة علاقة ما ويحقق فائدة مرجوة، فتدفع به نحو التلون والتملق وتقمص مشاعر خادعة، أو ترديد عبارات وجمل مشحونة بالإطراء والإطناب الخارج عن حقيقة المشهد، ومصداقية الواقع.
كم يحرج أحدهم حين يجد نفسه معتقلاً بقول الحقيقة وخسارة أمر، أو تمرير بعض الكذبات لتجنب الحرج، والفرار إلى إرضاء الذات.
ويقول فيلدمان: "إن البعض يكذب لتجنب نتيجة سلبية ويقول: عادة ما يكذب الأطفال خوفاً من العقاب، ولكننا مع تقدمنا في العمر، نتعلم كيف نكذب بشكل أفضل"، مما يعني أن الناس يستمرون في الكذب لحماية أنفسهم، أو لحماية الآخرين. وقد لاحظ الباحثون أن الأطفال المتخوفين من العقاب هم الأكثر كذباً، كما كان المحفز لقول الحقيقة عند الأصغر سنًّا هو الحصول على رضا الكبار، أما عند الأطفال الأكبر فالهدف من وراء قول الحقيقة هو "فعل الصواب".
وكذلك الكذب لتحقيق نتيجة إيجابية، يقول فيلدمان: قد يكذب الناس للحصول على النتيجة التي يريدونها لأنفسهم أو للآخرين.
وتذهب الأنا ببعضهم إلى إحداث أثر لنيل إعجاب، أو إثارة انتباه الغير، فيضع نفسه فيما ليس فيه، ويكون متشعباً بما لا يليق ولا يناسب طبيعته، والكل يتابع ويشاهد المحتوى في وسائل التواصل ومحاولة المشاهير وغيرهم الوصول إلى نشوة السمعة، ولذة الشهرة، وجني الأرباح، فتجده يخوض بكذبات وأوهام فيما يعلن عنه أو يرويه لينال مزيداً من المتابعة،
ويقول فيلدمان: إن الكذبة تبدأ ككرة صغيرة من الثلج تكبر مع تدحرجها أكثر وأكثر، فإذا كذب أحدهم بشأن شيء صغير في البداية، يرى أنه يتوجب عليه أن يكذب بطرق أكبر وأكبر حتى لا يفتضح أمر كذبته الأولى.
لذا فالواقع يقول: إن السمة العامة والأصل في الناس حسن الظن والصدق في حديثهم. وطبيعي نحن نُفضل سماع الحقيقة من الآخرين، ونحاول كذلك تقديم الحقيقة لهم عموماً. حيث يُعد التواصل الصادق أساسًا للحوارات والعلاقات الاجتماعية. ودون الصدق يكون التواصل بلا معنى، وتكون الحوارات الاجتماعية عديمة الفائدة. ولكن رغم ميلنا إلى الصدق، يكذب أكثرنا أحياناً. معظمنا يكذب، لكن البعض يكذب أكثر من اللازم. وقد وجدت إحدى الدراسات أن الأشخاص الذين يتمتعون بدرجة عالية من الميكيافيلية (من يتلاعبون بالآخرين وغير عاطفيين ولا يبالون بالأخلاق) يميلون إلى قول أكاذيب أكثر بكثير من سواهم.
لاشك أن المكاسب التي قد يجنيها الكاذب من سلوكه هذا هي مكاسب لا أخلاقية وستكون مؤقتة وسينقطع حبل كذبه بمقص الزمن وافتضاح حقيقته ومعدنه.
يبقى القول: الكذب إن كان له علاقة بالأخلاق عموماً فعلاقته أوثق بالدين ولا يمكن أن يعرف الكذب خارج السياق الديني كصفة لمن له دين قويم كمسلم ملتزم بالأمانة والصدق، وقلب سليم لمؤمن يريد أن يكتب عند الله صديقاً ولا يُهدى إلى الفجور فيكتب عند الله كذّاباً، لذا يتوجب أن ندخل في المنجاة بالصدق وأن نسمو بذاتنا نحو أمانة القول والفعل مع الغير، ونقتنع أن الكذب عتبة الفجور والنقص والخسارة.
التعليقات