حيثما جال المراقب بنظره في مناطق النزاعات العربية، بدا له عرضان رئيسان للدولة المنكوبة، أولهما ضعف واهتراء فكرة الدولة الجامعة، بمعنى وجود عقد اجتماعي يؤصل وحدة الدولة، وترابط عناصرها، واحتكار الدولة للقوة، أما ثاني العرضين، فيتمثل في وجود ما بات يسمى بالجيوش الرديفة، وهي غالباً قوى وتشكيلات عسكرية تنازع الدولة على سيادتها وسلطتها، بل أحياناً تتجاوز سلطة الدولة، وتصبح بمثابة قيادة أمر واقع، وتبدو الدولة حيالها بمثابة هيكل فارغ بلا معنى.

فشل بناء الدولة الجامعة في بعض الأقطار العربية يمكن عزوه لأسباب متشابكة لا يمكن إيجازها هنا، أما مسألة الجيوش الرديفة أو قوى ما فوق الدولة فإنها نتيجة بدهية لغياب دولة المواطنة والحقوق المتساوية، لذا فإن أي مقاربة عربية شاملة لإنهاء نزاعات المنطقة ووقف دائرة الانهيار في بعض دولها يجب أن يبدأ بترسيخ مبدأ سيادة الدولة، ووحدة سلطتها، وتفكيك البنى الخارجة عن إرادة الدولة، وتوحيد الجهة المالكة للسلاح والمحتكرة للقوة الجبرية، ومن دون ذلك فإن أي مقاربة لحل أزمات المنطقة ستصطدم دوماً بتعنّت السلاح الخارج عن سيادة الحكومة، وسيتبع ذلك الاستثمار في الانقسامات والتباينات بين قوى الدولة بما يؤبّد الأزمة، ويعمق الانقسامات، الأمر الذي يبذر خطر تفكيك الدول، وتفتيت مكوناتها.

ما طرأ في المنطقة مؤخراً من تطورات إيجابية وانطلاق دبلوماسية الحوار والتقارب، والتي أطلقتها المملكة بغرض وقف النزاعات، وإيجاد حلول موضوعية للأزمات بما يضع المنطقة على سكة السلام والتنمية والاستقرار، يمكن توظيفه في خلق مشروع سياسي عربي، بغرض تعزيز سيادة الدولة العربية واحتكارها للقوة، وهو ما سيمهّد الطريق نحو خطوة لاحقة تتمثل في إجراء حوار بين قوى الدولة السياسية والاجتماعية والحزبية، وخلافها، للوصول إلى صيغة جامعة لمفهوم الدولة، بما يرسخ قيم المواطنة المشتركة، وتساوي الحقوق، وما سيفضي بالضرورة إلى تفرغ الدولة لمشروع التنمية وتثبيت الأمن والاستقرار.